مواجهة الغلاء: استخدام التكنولوجيا لتحقيق أهداف القانون

المحامي بهاء العرموطي

 في نظام السوق الحر، تُحدَّد الأسعار وفقاً لقوى السوق والعرض والطلب من شركات القطاع الخاص. فلا تكون الحكومة تاجراً أو صانعا، مما لا يمكّنها بطبيعة الحال من التحكّم في الأسعار بشكل مباشر. وإنّما يقتصر دورها على وضع السياسات وفرض القوانين التي تكفل حماية المنافسة بين الشركات بما يحفز تحسين الجودة وانخفاض الأسعار في السوق سعياً لجذب المستهلك.

 وبعيداً عن ظروف العرض والطلب، أو أيّ ظروف اقتصادية أخرى قد تؤثّر بصفة مؤقّتة على الأسعار، تنخفض الأسعار على المدى الطويل في السوق عندما تكون المنافسة قويّة بين الشركات. فإذا كانت المنافسة بين الشركات ضعيفة، فإنّ الأسعار سترتفع بشكل غير معقول أو مبرّر.

 لذلك، فإنّ الحفاظ على منافسة سعريّة بين الشركات، في نظام اقتصاد السوق، يتطلّب في الأساس قدرة حكوميّة على ضبط الممارسات غير المشروعة للتُجّار في السوق.

في الأردنّ، تبرز هذه التحدّيات في المرحلة الراهنة التي تشهد فيها البلاد ارتفاعاً حادّاً لأسعار السلع، ومنها السلع الغذائيّة التي يعتمد الأردنّ على استيرادها لتحقيق أمنه الغذائيّ.

  الأمر الذي فاقم من مشكلة ارتفاع الأسعار العالميّة في الأردنّ، نتيجة أزمة الكورونا أو الحرب الروسية الأوكرانية؛ هو ضعف السياسات والقدرات الحكوميّة في التعامل مع أسباب ارتفاع الأسعار "المحلّيّة"، وأهمّها: الممارسات غير المشروعة في السوق الأردنيّ كالاحتكار أو اتّفاق المورّدين على سعر البيع أو غيرها من الممارسات التجاريّة غير المشروعة التي تنصّ عليها المادّة 5(أ) من قانون المنافسة رقم 33 لسنة 2004.

 قانون المنافسة الذي صدر في العام 2004 ليس مفعّلا كما يجب حتّى الآن ؛ إذ إنّ فرض هذا القانون يتطلّب، بدايةً، توفّر بيانات يوميّة دقيقة لأسعار السلع في السوق. إلّا أن الحكومة باتت غير قادرة على معرفة الأسعار بطريقة "ديناميكيّة"، خصوصاً في ظلّ توسّع السوق، وذلك لمحدوديّة إمكانيّاتها. فهي لا تملك الكوادر الكافية لاستقصاء الأسعار اليوميّة ومعدّلاتها للسلع المختلفة في شتّى أسواق المملكة.

باعتقادي، إنّه حتّى في ظلّ هذا العجز، لا زال الحلّ ممكناً بواسطة التكنولوجيا؛ إذ إنّ غاية قانون المنافسة ضمان تحفيز التنافسيّة بين التُجّار على الأسعار، بما يؤدّي إلى تخفيضها. وهنا أتحدّث بشكل رئيسيّ عن السلع الغذائيّة التي تُباع في المحالّ التجاريّة كالسوبرماركت والمخبز و"الملحمة"، والسلع الأساسيّة التي تشمل موادّ البناء المختلفة. 

 لنفترض أنّ المحالّ التجاريّة التي تبيع هذه السلع تقوم بإدخال أسعار كافّة السلع لديها يوميّاً على نموذج إلكترونيّ يرتبط بقاعدة بيانات إلكترونيّة؛ تنقل بدورها بيانات الأسعار تلقائياًّ إلى برنامج يعرض الأسعار من خلال تطبيق "خارطة إلكترونية للسوق" مشابه لخرائط "جوجل"، وذلك بمجرّد الضغط على أيقونة الاسم التجاريّ على موقع المحلّ أو "السوبرماركت" أو الملحمة أو حتى البقّالة على الخارطة الإلكترونيّة للسوق، بحيث تُمكّن المستهلك من البحث في الخارطة أينما كان، ليتعرّف على مواقع المحالّ المحيطة أو القريبة منه أو حتّى البعيدة، والاطّلاع على أنواع وأسعار السلع المعروضة على رفوف هذه المحلّات بشكل تفصيليّ، وبما يمكّنه من إجراء مقارنة سريعة بين أسعار السلعة التي يرغب بشرائها والمعروضة في محلّات مختلفة.

 من الناحية التسويقيّة، سيكون من مصلحة المحالّ عرض بيانات موقعها الجغرافي وأسعار سلعها المعروضة، خصوصاً أنّها لا تتسم بالسرّيّة؛ إذ إنّ عرض الأسعار في المحلّات التجاريّة هو في النهاية التزام قانونيّ وفقاً للمادّة 11 (أ) من قانون الصناعة والتجارة رقم 18 لسنة 1998.  إضافةً لذلك، فإنّه بمجرّد إدخال البيانات لأوّل مرّة من قِبَل المحلّ التجاريّ، فإنّ هذا البرنامج سينشئ له موقعاً إلكترونيّاً. وقد يتيح هذا أيضاً للمستهلك القيام بعمليّة الشراء مباشرةً من صفحة المحلّ التجاريّ بعد ظهورها على ″الخارطة″ والحصول على السلعة من خلال خدمة التوصيل. 

أمّا من الناحية العمليّة والتنظيميّة، ستدفع هذه التكنولوجيا الكثير من المحالّ التجاريّة لمواكبة التغيّرات ومتطلّبات "الاقتصاد الجديد" الذي يعتمد على التجارة الإلكترونيّة والابتكار والتكنولوجيا.

 ومن الناحية الاقتصاديّة، فإنّ هذه البيانات ستساعد بشكل علميّ ودقيق على دراسة أسعار السلع المختلفة وتحليلها، إذ ستمكّن من عمل مقارنة شاملة لأسعار السلع، والتعرّف على السلعة التي يرتفع سعرها بشكل كبير أو التي تُباع بأسعار متماثلة بالرغم من اختلاف مصادرها. وهذا بالطبع سيمكّن الجهات الرقابيّة المختصّة من معرفة الأسعار دون الحاجة للكوادر أو للزيارات الميدانيّة، بما يمكنها من وضع السياسات واتّخاذ القرارات التي تحفّز المنافسة في سوق أيّ سلعة، بما في ذلك تفعيل قانون المنافسة إن تَبيّن أنّ سبب ارتفاع السعر لسلعة معيّنة هو ممارسات غير مشروعة مخالِفة للقانون.

ومن الممكن أن يقدّم البرنامج أيضاً مخرجات تحليليّة فوريّة لمعدّلات أسعار كلّ سلعة في السوق، سواء بشكل يوميّ أو شهريّ أو سنويّ، ويُبيّن تلقائيّاً السلع التي يرتفع أو ينخفض سعرها بشكل حادّ خلال مدّة محدّدة. وقد يبيّن، على سبيل المثال، المحالّ التي تعرض أقلّ سعر لسلعة ما في اليوم الواحد، ممّا سيحفّز المنافسة أيضاً بين المحالّ التجاريّة المختلفة.

عمليّاً، لن تكون هناك كلفة كبيرة على المحالّ التجاريّة لإدخال بيانات الأسعار؛ إذ إنّ غالبيّة هذه المحلّات، سواء الكبيرة أو الصغيرة، تحتفظ بقوائم إلكترونيّة محدَّثة لأسعار السلع المعروضة لديها.

استخدام التطبيق قد يبدأ تدريجيّاً من قِبَل المحالّ التي تهتمّ بالتسويق الإلكترونيّ. وحتماً ستتبعها المحلّات الأخرى عندما يصبح استخدام التطبيق منتشراً ومرغوباً من الناس.

هذه فكرة قابلة للتطبيق. ومن الممكن أن يكون هناك حلول وأفكار تكنولوجيّة أخرى قد تساعد على زيادة المنافسة وضبط الأسعار من الزيادة غير المبرّرة، تحقيقاً لمصلحة المستهلك الأردنيّ، وللمصلحة العامّة المتمثّلة في الحدّ من التضخّم.

هذا سيخفّف من آثار الأزمات السعريّة التي نشهدها مراراً وتكراراً،  والتي تقف الحكومة عاجزة تماماً عن التعامل معها منذ تبنّي اقتصاد السوق في العام 2000. وما أزمات الارتفاع غير المبرّر لأسعار اللحوم، والألبان، والدواجن، والخضراوات، وغيرها من السلع التي نشهدها بين الحين والآخر إلّا دليل على ذلك. 

 أمّا في غياب الحلول، ستستمرّ حالة "فوضى الأسعار" التي تخيّم على أسواقنا؛ هذه الفوضى التي لطالما أرهقت جيوب المواطنين و ساهمت في تآكل دخولهم.

 

 جميع الحقوق محفوظة ©️ 2022 العرموطي محامون ومستشارون

 

stay in the loop

Subscribe for more inspiration.