اعتبارات الأمن الغذائي في الأردن
المحامي بهاء الدين العرموطي
Dec 31, 2021
تسعى الدول على الدوام إلى حفظ أمنها "الغذائيّ" بما يضمن استقرارها السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ. وتقوم في سبيل ذلك بوضع السياسات والتشريعات التي تؤمّن تلبية إجماليّ الكمّيّات التي يستهلكها المواطنون من السلع الغذائيّة في السنة الواحدة، سواء من المستوردات أو المنتجات المحلّيّة. وتبرز أهمية الأمن الغذائي في أوقات الأزمات التي يرافقها حدوث اضطرابات في إمدادات شبكات التوريد العالميّة، والتي تعطّل بدورها استيراد السلع ومدخلات الإنتاج، ممّا يشكّل تهديداً للأمن الغذائيّ، كما حصل في أزمة كورونا.
في الأردنّ، يتحقّق الأمن الغذائيّ بصورة رئيسيّة من تأمين استيراد المواد الغذائيّة. حيث تشكّل السلع الغذائيّة المستورَدة أكثر من ٧٠% من مجمل الاستهلاك المحلّيّ للموادّ الغذائيّة (مواطنين ولاجئين سوريّين)، بحسب تقرير الأمم المتّحدة الذي صدر منتصف العام الماضي حول الأمن الغذائيّ في الأردنّ. أمّا السلع المصنَّعة محلّيّاً، فإنّها لا تساهم كثيراً في معادلة حفظ الأمن الغذائيّ نتيجة الكثير من المعوّقات، أهمّها: ارتفاع الضرائب، وارتفاع كلف الطاقة، ومحدوديّة حصص المياه المخصّصة للأراضي الزراعيّة، وانعدام برامج الدعم. كما أنّ القطاع الزراعيّ يفتقر لآليّات الحماية "العاجلة" في ظلّ تنازل الأردنّ عن حقّ فرض "التدابير الوقائيّة الخاصّة" على المستوردات عند التفاوض على الانضمام لمنظّمة التجارة العالميّة. (التدابير الوقائيّة الخاصّة تتيح للدولة زيادة الرسوم الجمركيّة على السلعة الزراعيّة المستوردة بمجرّد تزايد استيرادها خلال فترة معيّنة؛ وذلك حمايةً للسلعة المنتجة محلّيّاً المشابهة لها).
وعليه، فإنّ الأمن الغذائيّ في الأردنّ يعتمد بشكل أساسيّ على المستوردات. ويخضع الاستيراد لسياسة تحرير التجارة التي تبنّاها الأردنّ رسميّاً بانضمامه لمنظّمة التجارة العالميّة.
لذا، عملت الحكومة منذ تبنّي هذه السياسة على تخفيض الرسوم الجمركيّة على الموادّ الغذائيّة والزراعيّة؛ لتأمين انسيابها إلى السوق المحلّيّ، وتحقيق وفرة في مخزونها. كما أعفت العديد من السلع الغذائيّة الأساسيّة من الرسوم الجمركيّة كالقمح والشعير.
السياسة التجاريّة المتّبعة في الأردنّ ساهمت إلى حدّ كبير في استمرار انسياب السلع إلى الأسواق حتّى في ظلّ جائحة كورونا. وعلى الرغم من حدوث نقص في استيراد بعض السلع، إلّا أنّ هذا النقص لم يكن مَلموساً.
أمّا التهديد الأكبر للأمن الغذائيّ في الأردنّ فهو ارتفاع الأسعار، حيث ارتفعت أسعار الموادّ الغذائيّة بشكل غير مسبوق خلال الجائحة، وما زال هذا الارتفاع مشهوداً حتّى هذا اليوم، ممّا حدّ بشكل كبير من قدرة الأردنيّين على شراء احتياجاتهم من السلع، لا سيّما في ظلّ تراجع دخل العائلات بسبب الوباء. ارتفاع الأسعار في الأردنّ لم يتوقّف عند ارتفاع الأسعار العالميّة، بل إنّه تجاوز ذلك بسبب الكثير من الأسباب الداخليّة التي ساهمت في زيادتها المُضْطردة، أهمّها: عدم إمكانيّة تطبيق قانون المنافسة في مواجهة الممارسات التجاريّة غير المشروعة، وثانياً: المعوّقات الكبيرة التي تقف أمام استيراد الكثير من السلع الغذائيّة والتي تعطّل المنافسة في السوق الأردنيّ.
صدر قانون المنافسة في العام ٢٠٠٤. وحتّى الآن، لم يصدر أيّ قرار قضائيّ بموجب هذا القانون في مواجهة الممارسات غير المشروعة في السوق والتي تؤدّي إلى ارتفاع الأسعار، كالاحتكار أو التواطؤ بين المورّدين على أسعار السلع. تطبيق قانون المنافسة يتطلّب في المقام الأوّل توفّر بيانات دقيقة لأسعار السلع في السوق، وبشكل يوميّ. وهذا غير ممكن حاليّاً في ظلّ عجز الحكومة عن الحصول على هذه البيانات من الأسواق المترامية الأطراف في المملكة نتيجة قلّة الكوادر وضعف الإمكانات. وعلى افتراض توافر البيانات، فإنّ نصوص القانون لا تُمكّن الجهة الحكوميّة المختصّة من فرض العقوبات؛ لأنّها تمنح صلاحيّة فرض العقوبات للقضاء ذي الإجراءات الطويلة نسبيّاً.
من ناحية أخرى، تشترط وزارة الزراعة على مستوردي السلع الغذائيّة الحصول على رخص استيراد. هذا ناجم عن قلّة الوعي بأحكام اتّفاقيّات منظّمة التجارة العالميّة، التي تحظر ذلك إلّا ضمن شروط محدّدة. على أرض الواقع، أدّى هذا إلى تعطيل استيراد الكثير من السلع الغذائيّة بسبب السلطات التقديريّة الواسعة لهذه الوزارة في منح أو عدم منح الرخص. وبناءً على ذلك،يتمّ حظر الاستيراد أو تقييده كمّيّاً، ممّا يعطّل المنافسة في السوق، ويؤدّي غالباً إلى ارتفاع أسعار الموادّ الغذائيّة.
أمّا على الجانب الدوليّ، وحيث إنّ الأردنّ يعتمد بشكل كبير على الاستيراد، فإنّ التخوّف دائماً يكون من القيود التي قد تفرضها الدول المصدّرة على صادراتها من السلع الغذائيّة، كما حصل عندما فرضت روسيا ورومانيا قيوداً مؤقّتة على تصدير القمح خلال أزمة كورونا، وقامت بإزالتها مع انتهاء الموجة الأولى من الوباء. وهي دول يستورد منها الأردنّ جزءاً كبيراً من احتياجاته من القمح، ممّا كاد أن يُحدث أزمة حقيقيّة.
هذا يستدعي أن تتكاتف الجهود الدوليّة في منظّمة التجارة العالميّة لتبنّي قرارات تمنع مثل هذه القيود في المستقبل؛ لأنّها تشكّل خطراً على الأمن الغذائيّ للدول التي تعتمد على استيراد السلع الغذائيّة لتغطية احتياجاتها، وخصوصاً الدول النامية منخفضة الدخل كالأردنّ والدول الأقلّ نموّاً.
جميع الحقوق محفوظة ©️ 2021 العرموطي محامون ومستشارون
stay in the loop